الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: خصائص التصور الإسلامي ومقوماته **
التوحيد هو المقوّم الأول للتصور الإسلامي، بما أنه هو الحقيقة الأساسية في العقيدة الإسلامية، ولكنه كذلك هو إحدى خصائص هذا التصور، بما أن التصور الإسلامي يتفرد بهذه الصور الخالصة من التوحيد، من بين سائر التصورات الاعتقادية والفلسفية السائدة في الأرض جميعاً.. وبهذا الاعتبار نتحدث هنا عن "التوحيد" ضمن "خصائص التصور الإسلامي" كما سنتحدث عنه في القسم الثاني من هذا البحث، ضمن "مقومات التصور الإسلامي".. نتحدث عنه هنا ضمن الخصائص، لنبين نوع تفرد التصور الإسلامي بهذه الخاصية، من بين سائر التصورات الاعتقادية والفلسفية السائدة في جنبات الأرض. ونبادر فنقرر أن "التوحيد" كان هو "الخاصية" البارزة في كل دين جاء به من عند الله رسول. كما أنه كان "المقوّم الأول" في دين الله كله .. وأن "الإسلام" – على إطلاقه- كان هو الدين الذي جاء به كل رسول. بما أن الدين هو إسلام الوجه لله وحده، واتباع منهج الله -وحده- في كل شؤون الحياة، والتلقي من الله –وحده- في هذا الشؤون كلها، والعبودية لله وحده بطاعة منهجه وشريعته ونظامه، والعبادة لله وحده سواء في الشعائر التعبدية أو في نظام الحياة الواقعية .. ولكن التحريفات والانحرافات التي وقعت في تصورات أتباع الرسل، إلى جانب طغيان الجاهليات على الديانات، لم تبق في الأرض كلها من تصور ديني صحيح، إلا التصور الذي جاء به محمد –صلى الله عليه وسلم- وحفظ الله أصوله، فلم تمتد إليها يد التحريف، ولم تطمسها كذلك الجاهليات التي طغت على حياة الناس .. ومن ثم أصبح "التوحيد" خاصية من خصائص هذا الدين. هنالك اعتبار آخر يجعل من حقنا أن نقرر هذه الحقيقة .. حقيقة أن التوحيد خاصية لهذا التصور. وهو المساحة التي تشملها حقيقة التوحيد في العقيدة الإسلامية، والجوانب التي تمتد إليها في هذا التصور، وفيما يقوم على هذا التصور من مشاعر وأخلاق وسلوك وتنظيم لجوانب الحياة الواقعية .. فقد امتدت هذه الحقيقة إلى تصور المسلم للكون كله، وتصوره لحقيقة القوة الفاعلة فيه، وتصوره لحقيقة القوة الفاعلة على حياته هو بحذافيرها. كما أمتدت إلى تنظيم جوانب الحياة الإنسانية كلها: خافيها وظاهرها. صغيرها وكبيرها. حقيرها وجليلها. شعائرها وشرائعها. اعتقاديها وعمليها. فرديها وجماعيها. دنيويها وأخرويها .. بحيث لا تفلت ذرة واحدة منها من عقيدة التوحيد الشاملة.. كما سبق أن بينا في خاصية "الشمول" .. وكما سنبين بالتفصيل في القسم الثاني من هذا البحث عند الكلام عن "حقيقة الألوهية". يقوم التصور الإسلامي على أساس أن هناك ألوهية وعبودية .. ألوهية يتفرد بها الله سبحانه. وعبودية يشترك فيها كل من عداه وكل ما عداه.. وكما يتفرد الله – سبحانه- بالألوهية، كذلك "يتفرد" –تبعاً لهذا- بكل خصائص الألوهية .. وكما يشترك كل حي وكل شيء- بعد ذلك – في العبودية، كذلك يتجرد كل حي وكل شيء من خصائص الألوهية.. فهناك إذن وجودان متميزان. وجود الله ووجود ما عداه من عبيد الله. والعلاقة بين الوجودين هي علاقة الخالق بالمخلوق، والإله بالعبيد.. هذه هي القاعدة الأولى في التصور الإسلامي .. ومنها تنبثق وعليها تقوم سائر القواعد الأخرى .. وقيام التصور الإسلامي على هذه القاعدة الأساسية هو الذي يجعلها إحدى خصائصه كما أسلفنا. ولقد سبق القول بأن "التوحيد" كان هو قاعد كل ديانة جاء بها من عند الله رسول. والقرآن الكريم يقرر هذه الحقيقة، ويؤكدها، ويكررها في قصة كل رسول، كما يقررها إجمالاً على وجه القطع واليقين: (الأعراف: 59) (الأعراف: 65) (الأعراف: 73) (الأعراف: 85) (طه: 9-14) (المائدة: 116-118) (الأنبياء: 25) ولكن هذا التوحيد الذي جاء به الرسل جميعاً، حرف ودخلت فيه الأساطير في شتى المعتقدات. سواء في الديانات التي تنسب إلى السماء، أو في الوثنيات التي اختلطت فيها بقايا الديانات السماوية بالأساطير في شتى الأزمان. والتي ذكرنا طرفاً منها في فصل "تيه وركام" … وأطرافاً أخرى في بعض الفصول السابقة من هذا البحث. ولكي ندرك حقيقة أن التوحيد خاصية من خصائص التصور الإسلامي –وقبل أن نعرض المساحة التي تشغلها حقيقة التوحيد في هذا التصور- يحسن أن نلم ببعض التصورات الأخرى فيما يختص بتصور الألوهية والعبودية … وبخاصة بعض التصورات التي اشتملت على تصور وجودين متميزين، أو على نوع من التوحيد للإله: الهندوكية مثلاً اعترفت بواحد هو وحده "الموجود" وهو "براهما" وجعلت من صفاته: التفرد بالكمال، والتفرد بالخير، والتفرد بالدوام، والتفرد بالأزلية.. وجعلت ما عدا هذا الواحد الموجود "عدما" لا وجود له .. فهذه الأكوان وما فيها عدم! ولكنها من جانب آخر جعلت "الوجود" الذي هو الخير والكمال يحل في "العدم" الذي هو الشر والنقص .. فبراهما حالٌّ في كل جزء من أجزاء هذا العالم –الذي هو عدم- فكل جزء من أجزاء هذا العالم- بما في ذلك الإنسان- مؤلف إذن من وجود وعدم. من خير وشر. من كمال ونقص. من بقاء وفناء! ومهمة الهندوكي المؤمن إذن هي المحاولة المستمرة لتخليص الوجود والخير والكمال والبقاء الذي في كيانه، من العدم والشر والنقص والفناء، "ليصير" براهما .. ومن هنا حرصه على إفناء جسمه –الذي هو العدم- لينطلق "الوجود" الحالّ فيه، ويصبح طليقاً .. وهذه هي درجة "النرفانا" وهي تمثل الخلاص والعودة "براهما"! ومع ذلك فقد شاب هذا التوحيد –على ما به من حلول- شائبة من "التثليث".. إذ اعتبر "براهما" صورة من صور ثلاث للإله الواحد: الإله "براهما" في صورة الخالق. والإله "فشنو" في صورة الحافظ. والإله "سيفا" في صورة الهادم. ثم جعلوا "الكارما" هي "القدر" الغالب على الآلهة وعلى الأفلاك. وهو الذي يكرر على العالم دورات الخلق والفناء .. فلم تسلم عقيدة التوحيد حتى في صورتها تلك المليئة بالإحالات! واشتملت ديانة أخناتون على لون من التوحيد. إذ وصف أخناتون إلهه "أتون" بأوصاف الوحدانية، والفاعلية، ومنها خلق هذا الكون وحفظه وتدبيره. وكان هذا أعلى تصور عرفته البشرية في غير الديانات السماوية- وإن كان ينبغي ألا تغفل أثر الديانات السماوية في عقيدة أخناتون هذه- ولكن مع ذلك شابتها شائبة من عقائد الوثنية. إذ جعل هذه الشمس المادية رمزاً لإلهه، وجعل اسمها مرادفاً لاسمه. فاختلطت عقيدة التوحيد بهذا الأثر الوثني الغريب! وفرق أرسطو بين إله "واجب الوجود" وكون "ممكن الوجود" .. غير أنه جعل إلهه هذا الواحد، سلبياً تجاه الكون. فهو أولاً لم يخلق الكون. ولا علاقة له بتدبيره. إنما هذا الكون يتحرك بشوق كامن فيه إلى واجب الوجود، تقل من حالة "مكان الوجود" إلى حالة "الوجود". وكان التوحيد ديانة إبراهيم عليه السلام، ووصى به إسماعيل وإسحاق. وكان يعقوب ابن اسحاق يدين بالتوحيد، ووصى به بنيه كذلك في ساعة موته، كما يحكي ذلك القرآن الكريم: (البقرة: 130-133) فلما جاء موسى رسولاً لبني إسرائيل جاء بالتوحيد – وما تزال اليهودية تعتبر ديانة توحيد- إلا أن بني إسرائيل من قبل موسى ومن بعده، شوهوا هذا التوحيد، وحرفوا الكلم عن مواضعه. فجعلوا إلهاً خاصاً لبني إسرائيل وحدوه. ولكنهم جعلوه إلهاً قومياً ينصرهم على أصحاب الآلهة الآخرين! وذلك فوق ما افتروا على "إله إسرائيل" ذاته فقالوا نحن أبناء الله وأحباؤه. وهو لا يعذبنا بذنوبنا، وقالوا: "عزير ابن الله" وقالوا عنه: إن له أبناء تزاوجوا مع بنات الناس فولدوا العمالقة، الذين خاف الإله منهم أن يصبحوا آلهة مثله، فنزل وبلبل ألسنتهم! وقالوا: إن يعقوب صارع هذا الإله مرة، وضربه فخلع حقوه! وقالوا عنه: إنه يتمشى في ظلال الحديقة ويتبرد بهوائها، وقالوا عنه: إنه يحب ريح الشواء… إلى آخر هذه الأساطير التي شوهت وطمست عقيدة التوحيد. وجاء عيسى عليه السلام بالتوحيد.. ثم انتهت عقائد النصارى إلى التثليث، الذي يحاولون أن يصفوه بالتوحيد، بين الأقاليم الثلاثة: الأب، والابن، والروح القدس. مع الاختلاف على طبيعة الأقنوم الابن ومشيئته .. مما يجعل "التوحيد" في هذه الديانة، كما تفرقت بها الطوائف، دعوى لا حقيقة لها من واقع التصورات المتنوعة للكنائس المتعددة.. وهكذا نستطيع أن نقول باطمئنان: إن التصور الإسلامي هو التصور الوحيد الذي بقي قائماً على أساس التوحيد الكامل الخالص. وإن التوحيد خاصية من خصائص هذا التصور، تفرده وتميزه من بين سائر المعتقدات السائدة في الأرض كلها على العموم. والآن –بعد هذا البيان- نستطيع أن نبين –في اختصار- طبيعة وحدود هذا التوحيد. تقرر العقيدة الإسلامية –كما تقدم- أن هناك ألوهية وعبودية. ألوهية يتفرد بها الله –سبحانه- ويشترك فيها كل حي وكل شيء. كما تقرر تفرد الله –سبحانه- بخصائص الألوهية، وتجرد العبيد من هذه الخصائص.. ومن ثم ترتب على هذا التصور كل مقتضياته وكل نتائجه في الحياة الإنسانية.. فالله –سبحانه- واحد في ذاته، متفرد في كل خصائصه .. (سورة الإخلاص) (الشورى: 11) (النحل: 74) والله –سبحانه- خالق كل شيء: (الأنعام: 102) (الفرقان: 2) (الأحقاف: 4) والله –سبحانه- هو مالك كل شيء: (الأنعام: 12) (المائدة: 17) (الفرقان: 2) والله –سبحانه- هو الرازق لكل من خلق وكل ما خلق: (فاطر: 3) (العنكبوت: 60) (هود: 6) والله –سبحانه- هو مدبر كل شيء، ومصر كل شيء، وحافظ كل شيء: (فاطر: 41) (الروم: 25) (يس: 12) والله –سبحانه- هو صاحب السلطان المسيطر القاهر على كل شيء: (الأنعام: 61-62) (الأنعام: 65) (الأنعام: 46) وكل خلائق الله –سبحانه- تقر له بالعبودية والطاعة والقنوت: (فصلت: 11) (الروم: 25-26) (النحل: 49) (الإسراء: 44) ونكتفي بهذا القدر من مجالات التوحيد في التصور الإسلامي، حيث يتبين منها إفراد الله-سبحانه- بالألوهية، وتقرير عبودية كل من عدا الله وكل ما عداه لألوهيته. وقيام العلاقات بين الخلق والخالق على أساس العبودية وحدها. لا على أساس نسب ولا صهر. ولا مشاركة ولا مشابهة، في ذات ولا في صفة ولا في اختصاص… وهذا القدر يكفي في بيان أن التوحيد خاصية من خصائص التصور الإسلامي. وهي الحقيقة التي نريد تقريرها في هذا القسم الأول من البحث. أما تفصيل هذه الحقيقة فموضعه في القسم الثاني عند الكلام عن "حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية". غير أن الحديث عن خاصية التوحيد لا يتم حتى نشير كذلك –بمثل هذا الاختصار- إلى مقتضيات هذا التوحيد المطلق الكامل الشامل الحاسم الدقيق، في الحياة الإنسانية … وهذه المقتضيات تمثل كذلك كيف أن التوحيد خاصية من خصائص التصور الإسلامي: إن من مقتضيات توحيد الألوهية –في التصور الإسلامي- إفراد الله –سبحانه- بخصائص الألوهية في تصريف حياة البشر، كإفراده –سبحانه- بخصائص الألوهية في اعتقادهم وتصورهم، وفي ضمائرهم وشعائرهم على السواء. وكما أن المسلم يعتقد أن لا إله إلا الله، وأن لا معبود إلا الله، وأن لا خالق إلا الله، وأن لا رازق إلا الله، وأن لا نافع أو ضار إلا الله، وأن لا متصرف في شأنه –وفي شأن الكون كله- إلا الله… فيتوجه لله وحده بالشعائر التعبدية، ويتوجه لله وحده بالطلب والرجاء، ويتوجه لله وحده بالخشية والتقوى .. كذلك يعتقد المسلم أن لا حاكم إلا الله، وأن لا مشرع إلا الله، وأن لا منظم لحياة البشر وعلاقاتهم وارتباطاتهم بالكون وبالأحياء وببني الإنسان من جنسه إلا الله .. فيتلقى من الله وحده التوجيه والتشريع، ومنهج الحياة، ونظام المعيشة، وقواعد الارتباطات، وميزان القيم والاعتبارات .. سواء.. فالتوجه إلى الله وحده بالشعائر التعبدية، والطلب والرجاء والخشية والتقوى، كالتلقي من الله وحده في التشريع والتوجيه، ومنهج الحياة ونظام المعيشة، وقواعد الارتباطات وميزان القيم والاعتبارات .. كلاهما من مقتضيات التوحيد – كما هو في التصور الإسلامي- وكلاهما يصور المساحة التي تشملها حقيقة التوحيد في ضمير المسلم وفي حياته على السواء.. والقرآن الكريم يربط بين عقيدة التوحيد وبين مقتضياتها في الضمير وفي الحياة ربطاً وثيقاً، ويرتب على وحدانية الألوهية والربوبية ووحدانية الفاعلية والسلطان في هذا الوجود، كل ما يكلفه المسلم، سواء ما يكلفه من شعور في الضمير، أو ما يكلفه من شعائر في العبادة، أو ما يكلفه من التزام في الشريعة.. وفي السياق الواحد يرد ذكر التوحيد، وآثار الفاعلية والسلطان، في الكون وفي الحياة الدنيا والآخرة، ويكرر معها الأمر باتباع شريعة الله، باعتباره مقتضى توحيد الألوهية والسلطان: (البقرة: 163-172) وبالتأمل في هذا السياق القرآني نجد أنه بدأ بتقرير وحدانية الله، ووحدة الألوهية. ثم أتبع هذا التقرير بعرض المشاهد الكونية التي تتجلى فيها القدرة الإلهية. ثم أعقبها بعرض مشاهد القيامة التي يتدلى فيها السلطان الذي لا سلطان غيره … فلما انتهى من ذلك كله أمر الناس باتباع شريعة الله في التحليل والتحريم، ونهاهم عن اتباع الشيطان، وندد بمن يتلقون في هذا الشأن عن عرف الجاهلية، حيث لا يجوز التلقي فيه إلا من الله. ثم أمر الذين آمنوا أن يأكلوا من الطيبات التي شرع الله حلها. إن كانوا يعبدون الله وحده –وبين لهم ما شرع لهم حرمته، لأنه هو وحده الذي يحلل ويحرم كما أنه هو وحده الذي يعبد، وهو وحده الذي يصرف هذا الكون، وهو وحده صاحب السلطان يوم القيامة. وتوحيده –سبحانه- لا يتم حتى يتجلى في الشعائر وفي الشرائع وفي الدينونة سواء. ومثل هذا السياق القرآني المتماسك المتشابك يرد كثيراً في القرآن للدلالة على معنى "التوحيد" ومجاله. ولعله يحسن أن نذكر هنا مثالاً آخر يزيد الأمر جلاء. ويبين كذلك طريقة القرآن في عرض "خصائص التصور الإسلامي ومقوماته" عرضاً شاملاً متكاملاً: (الشورى: 7-15) وبالتأمل في هذا السياق نجد أنه بدأ بتقرير الوحي والرسالة، لينذر الرسول بيوم الجمع والدينونة في الآخرة. واختلاف مصائر المؤمنين والظالمين في الآخرة وفاقاً لاختلاف طرائقهم في الدنيا. وإعلان وحدانية السلطان في يوم الحساب. ثم اتبع ذلك ببيان وحدة الولاية ووحدة القدرة المتجلية في إحياء الموتى. ثم أعقب هذا بتقرير وحدة الحاكمية وقصرها على الله –سبحانه- كما أن عليه وحده يكون التوكل، وإليه وحده تكون الإنابة. ثم عرض مظاهر قدرته في فطر السماوات والأرض وخلق الناس أزواجاً والأنعام، مع تفرده سبحانه. ونحسب أن في هذين النموذجين الكفاية لبيان ذلك الارتباط الكامل في التصور الإسلامي بين توحيد الألوهية والحاكمية، ولبيان معنى التوحيد ومجاله في الحياة الإنسانية، ولتقرير أن "التوحيد" بهذا المعنى وفي هذا المجال خاصية من خصائص التصور الإسلامي. ويبقى بعد هذا البيان لمعنى التوحيد في التصور الإسلامي ولمجاله في الحياة الإنسانية أن نقول: إن هذا التصور ينشئ في العقل والقلب آثاراً متفردة، لا ينشئها تصور آخر، كما أنه ينشئ في الحياة الإنسانية مثل هذه الآثار كذلك. إنه ينشئ في القلب والعقل حالة من "الانضباط" لا تتأرجح معها الصور، ولا تهتز معها القيم، ولا يتميع فيها التصور ولا السلوك. فالذي يتصور الألوهية على هذا النحو، ويدرك حدود العبودية كذلك، يتحدد اتجاهه، كما يتحدد سلوكه، ويعرف على وجه الضبط والدقة: من هو؟ وما غاية وجوده؟ وما حدود سلطاته؟ كما يدرك حقيقة كل شيء في هذا الكون، وحقيقة القوة الفاعلة فيه. ومن ثم يتصور الأشياء ويتعامل معها في حدود مضبوطة، لا تميع فيها ولا تأرجح. وانضباط التصور ينشئ انضباطاً في طبيعة العقل وموازينه، وانضباطاً في طبيعة القلب وقيمه. والتعامل مع سنن الله بعد ذلك والتلقي عنها يزيد هذا الانضباط ويحكمه ويقويه. ندرك هذا حين نوازن بين المسلم الذي يتعامل مع ربه الواحد الخالق الرازق القادر القاهر المدبر المتصرف، وبين غيره من أصحاب التصورات التي أشرنا إليها. سواء من يتعامل مع إلهين متضادين: إله للخير وإله للشر! ومن يتعامل مع إله موجود ولكنه حالٌّ في العدم! ومن يتعامل مع إله لا يعنيه من أمره ولا من أمر هذا الكون شيء! ومن يتعامل مع إله (المادة) الذي لا يسمع ولا يبصر ولا يثبت على حال! إلى آخر الركام الذي لا يستقر العقل أو القلب منه على قرار. وإن هذا التصور لينشئ في القلب والعقل "الاستقامة" … فالإنسان الذي يدرك من حقيقة ربه ومن صفاته ومن علاقته به ذلك القدر "المضبوط" لا شك يستقيم في التعامل معه بقلبه وعقلهن ولا يضطرب ولا يطيش! والمسلم يعرف من تصوره لربه، وعلاقته به، ما يحب ربه وما يكره منه، ويستيقنه أن لا سبيل له إلى رضاه إلا الإيمان به، ومعرفته بصفاته، والاستقامة على منهجه وطريقه. فهو لا يمت إليه –سبحانه- ببنوة ولا قرابة، ولا يتقرب إليه بتعويذة ولا شفاعة، ولا يعبده إلا بامتثال أمره ونهيه. واتباع شرعه وحكمه. ومن شأن هذه المعرفة أن تنشئ الاستقامة في قلبه وعقله. الاستقامة باستقامة التصور. والاستقامة باستقامة السلوك. ذلك إلى الوضوح والبساطة واليسر في التصور في السلوك.. يدرك هذا كله من يوازن بين التصور الإسلامي القائم على التوحيد –بمعناه هذا ومجاله- وبين التصور الكنسي للأقانيم الثلاثة للإله الواحد. والبنوة التي لا سبيل للنجاة إلا بالاتحاد بها. والخطيئة الموروثة التي لا يغفرها إلا الاتحاد بالابن الذي هو المسيح عليه السلام! … إلى آخر هذه المعميات في هذه الدروب! مثل هذا يقال عمن يتعامل مع "الطبيعة!" التي لا تسمع ولا تبصر، ولا تنهى ولا تأمرن ولا تطالب عبادها بفضيلة ولا عملن ولا تنهاهم عن رذيلة ولا خلق! فأنى يستقيم هؤلاء العباد على منهج أو طريق؟ وأنى يستقيم لهم عقل أو قلب، وهم لا يعلمون من حقيقة إلههم ذاك شيئاً مستقيناً على الإطلاق، وهم كل يوم على موعد لكشف شيء عنه جديد، ولمعرفة صفة أو طبع لم يكونوا يعرفونه. ولا يعرفونه إلا بالمصادفة أو بالتجريب! وعلى هذا النحو نستطيع أن نمضي في استعراض الحال مع سائر التصورات التي سبق لنا عرضها في فصل، "تيه وركام" في أول هذا البحث، وفي الفصول المتفرقة بعد ذلك. وكلها لا يمكن أن توحي لأصحابها بضبط ولا استقامة في تصور أو في سلوك. كما أنها جميعاً تتسم بالغموض والتعقيد والتخليط. ومن ثم كان أول ما يستشعره القلب والعقل أمام العقيدة الإسلامية، هو الاستقامة والبساطة والوضوح.. وهذه هي السمة التي تجتذب الأفراد الذين يدخلون في هذا الدين من الأوروبيين والأمريكيين المعاصرين، فيتحدثون عنها، بوصفها أول ما طرق حسهم من هذا الدين. وهي ذاتها السمة التي تجتذب البدائيين في أفريقيا وآسيا في القديم والحديث.. لأنها سمة الفطرة التي يشترك فيها الناس أجمعين متحضرين وبدائيين. وإن هذا التصور ليكفل تجمع الشخصية والطاقة في كيان المسلم الفرد والجماعة، وينفي التمزق والانفصام والتبدد، التي تسببها العقائد والتصورات الأخرى.. فالكينونة الإنسانية – التي هي وحدة أصل خلقتها- تواجه ألوهية واحدة تتعامل معها في كل نشاط لها. تتعامل مع هذه الألوهية اعتقاداً وشعوراً. وتتعامل معها عبادة واتجاهاً. وتتعامل معها تشريعاً ونظاماً.. وتتعامل معها في الدنيا والآخرة أيضاً.. إنها لا تتوزع في الاعتقاد بآلهة مختلفة. أو بعناصر مختلفة في الألوهية الواحدة! أو بقوى مختلفة بعضها داخل في حوزة الإله وبعضها خارج عليه مضاد له! أو بعوامل مختلفة فيها ما يقهر الإله ذاته، وليس لها هي قانون يعرف فيتفاهم معه! أو بقوى "الطبيعة" التي ليس لها كيان محدد ولا ناموس مفهوم! وهي لا تتوزع في التوجه بالاعتقاد والشعور والعبادة إلى جهة. والتلقي في نظام الحياة الواقعية من جهة أخرى. إنما هي تتلقى من مصدر واحد في هذا وذلك، وتتبع ناموساً واحداً يحكم الضمير والشعور، كما يحكم الحركة والعمل..وهو ناموس لا يحكم الكينونة الإنسانية وحدها، إنما يحكم الكون كله كذلك.. فالكينونة الإنسانية حينما تعامل مع هذا الكون تتعامل معه في ظل هذا الناموس الواحد، بلا توزع ولا تمزق كذلك في هذا المجال. وهذا التجمع ينشئ طاقة هائلة، لا يقف في وجهها شيء. وهذا بعض أسرار الخوارق التي أنشأتها العقيدة الإسلامية في الحياة والتاريخ البشري. فمن هذا التصور انبثقت تلك الطاقة الموحدة. التي صنعت هذه الخوارق .. الطاقة المتجمعة في ذاتها، المتجمعة كذلك مع الطاقات الكونية المتصالحة معها، لأنها تتجمع وإياها في الناموس الواحد، المتجه إلى الألوهية الواحدة. كما بينا قبل في الحديث عن خاصية الشمول. ثم نجئ إلى الأثر المتفرد الذي ينشئه التصور الإسلامي في ضمير المسلم وفي حياته، وفي كيانه المجتمع المسلم وفي نشاطه بخاصية التوحيد التي يتضمنها ويقوم عليها .. إنه .. تحرير الإنسان .. أو هو بتعبير آخر .. ميلاد الإنسان .. إنه توحد الألوهية وتفردها بخصائص الألوهية، واشتراك ما عدا الله ومن عداه في العبودية وتجردهم من خصائص الألوهية .. إن هذا معناه ومقتضاه: ألا يتلقى الناس الشرائع في أمور حياتهم إلا من الله. كما أنهم لا يتوجهون بالشعائر إلا لله. توحيداً للسلطان الذي هو أخص خصائص الألوهية. والذي لا ينازع الله فيه مؤمن، ولا يجترئ عليه إلا كافر.. والنصوص القرآنية تؤكد هذا المعنى وتحدده وتجرده. بما لا يدع مجالاً لشك فيه أو جدال: (يوسف: 40) (الشورى: 21) (المائدة: 44) (النساء: 65) ولا يفرق التصور الإسلامي – كما أسلفنا- بين التوجه لله بالشعائر، والتلقي منه في الشرائع .. لا يفرق بينها بوصفهما من مقتضيات توحيد الله، وإفراده –سبحانه- بالألوهية. كما أنه لا يفرق بينهما في أن الحيدة عن أي منهما تخرج الذي يحيد من الإيمان والإسلام قطعاً. كما رأينا في النصوص السابقة.. وكما يثبته نص قرآني يجمع بين المعنيين وتفسير الرسول –صلى الله عليه وسلم- لهذا النص: (التوبة: 31) فأهل الكتاب الذين تتحدث عنهم الآية، اتخذوا المسيح ابن مريم رباً بمعنى ربوبية العبادة والشعائر. واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً- لا بهذا المعنى ولكن بمعنى التلقي عنهم في الشرائع والأوامر –ولكن الآية جمعت بين اتخاذهم المسيح ربا واتخاذهم الأحبار والرهبان أرباباً. وقررت أن هذا كله مخالف لما أمروا به من عبادة إله واحد. ودمغتهم بالشرك بسبب اتخاذهم الأحبار والرهبان أرباباً للتشريع .. ولهذا دلالته التي لا تقبل الجدال. ثم جاء تفسير الرسول –صلى الله عليه وسلم- للآية قاطعاً في هذا الاعتبار وفوق كل جدال: روى الإمام أحمد والترمذي وابن جرير –من طرق- عن عدي بن حاتم –رضي الله عنه- أنه لما بلغته دعوة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فر إلى الشام. وكان قد تنصر في الجاهلية. فأُسِرت أخته وجماعة من قومه. ثم من رسول الله –صلى الله عليه وسلم – على أخته وأعطاها. فرجعت إلى أخيها فرغّبته في الإسلام، وفي القدوم على الرسول –صلى الله عليه وسلم- فقدم عدي إلى المدينة –وكان رئيساً في قومه طيئ- فتحدث الناس بقدومه. فدخل على رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وفي عنقه (أي عدي) صليب من فضة. وهو (أي النبي صلى الله عليه وسلم) يقرأ هذه الآية: وقال السدى في تفسير ذلك: استنصحوا الرجال، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم. ولهذا قال تعالى: والتصور الإسلامي بهذا القطع الحاسم في هذه المسألة يعلن "تحرير الإنسان" بل يعلن .. ميلاد الإنسان.. إنه بهذا الإعلان يخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده. "والإنسان" بمعناه الكامل لا يوجد في الأرض، إلا يوم تتحرر رقبته، وتتحرر حياته، من سلطان العباد –في أية صورة من الصور- كما يتحرر ضميره واعتقاده من هذا السلطان سواء. والإسلام –وحده- يرد أمر التشريع والحاكمية لله وحده- هو الذي يخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده. إن الناس في جميع الأنظمة التي يتولى التشريع والحاكمية فيها البشر-في صورة من الصور- يقعون في عبودية العباد .. وفي الإسلام –وحده- يتحررون من هذه العبودية للعباد بعبوديتهم لله وحده. وهذا هو "تحرير الإنسان" في حقيقته الكبيرة .. وهذا –من ثم- هو "ميلاد الإنسان".. فقبل ذلك لا يكون للإنسان وجوده "الإنساني" الكامل، بمعناه الكبير، الوحيد .. .. وهذه هي الهدية الربانية التي يهديها للناس في الأرض بعقيدة التوحيد … وهذه هي النعمة الإلهية التي يمن الله بها على عباده وهو يقول لهم: وهذه هي الهدية التي يملك أصحاب عقيدة التوحيد أنه يهدوها –بدورهم- للبشرية كلها. وهذه هي النعمة التي يملكون أن يفيضوا منها على الناس، بعد أن يفيضوها على أنفسهم، ويرضوا منها ما رضيه الله لهم. وهذا هو الجديد الذي يملك أصحاب عقيدة التوحيد أن يتقدموا به للبشرية اليوم، كما تقدم به أسلافهم بالأمس فتلقته البشرية يومها كما تتلقى الجديد. ولم تستطع أن تقاوم جاذبيته لأنه يمنحها ما لا تملك، فهو شيء آخر غير كل ما لديها من تصورات وعقائد، وأفكار وفلسفات، وأنظمة وأوضاع .. بكل تأكيد .. لقد قال ربعي بن عامر رسول جيش المسلمين إلى رستم قائد الفرس، وهو يسأله ما الذي جاء بكم؟ كلمات قلائل تصور طبيعة هذه العقيدة، وطبيعة الحركة الإسلامية التي انبثقت منها، كما تصور طبيعة تصور أهلها لها، وإدراكهم لحقيقة دورهم بها .. قال له: "الله ابتعثنا، لنخرج من شاء، من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده. ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة. ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام". وفي هذه الكلمات القلائل تتركز قاعدة هذه العقيدة، وتتجلى طبيعة الحركة الإسلامية التي انبثقت منها، وانطلقت بها .. إنها إخراج من شاء الله من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده … ورد أمرهم إلى الله –وحده- في المحيا والممات، في الدنيا والآخرة. وإفراد الله سبحانه بالألوهية وبخصائص الألوهية –والسلطان والحاكمية والتشريع، هي أولى هذه الخصائص التي لا نازع الله فيها مؤمن، ولا يجرؤ على منازعته إياها إلا كافر –ولا توجد حرية للإنسان، بل لا يوجد "الإنسان" ذاته، إلا بخلوصها لله. وأصحاب عقيدة التوحيد – حين يفيئون اليوم إليها، وحين يرفعون رايتها وحدها- يملكون أن يقولوا للبشرية كلها ما قاله ربعي بن عامر. فالبشرة –من هذه الناحية- اليوم كما كانت يوم قال ربعي بن عامر كلمته.. إنها كلها غارقة في عبادة العباد. والتوحيد –بمعناه الشامل- هو الذي يخرج من شاء الله من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده. وبذلك وحده "يتحرر الإنسان" بل "يولد الإنسان". وأصحاب عقيدة التوحيد –حين يفيئون إلى منهج الله الذي من به عليهم وينادون به- يملكون أن يتقدموا للبشرية بالشيء الذي تفقده جميع المناهج والمذاهب والأنظمة والأوضاع في الأرض كلها لا استثناء. ومن ثم يكون لهم اليوم وغداً دور جديد، ودور عالمي إنساني كبير. ودور قيادي أصيل في التيارات العالمية الإنسانية. ودور يمنحهم سبباً وجيهاً للوجود العالمي الإنساني –كالدور الذي منح العرب الأميين في الجزيرة العربية، سبباً وجيهاً للوجود العالمي الإنساني، وللقيادة العالمية الإنسانية. إنهم لا يملكون أن يقدموا للبشرية اليوم أمجاداً علمية، ولا فتوحات حضارية، يبلغ من ضخامتها أن تتفوق تفوقاً ساحاً على كل ما لدى البشرية منها .. ولكنهم يملكون أن يقدموا لها شيئاً آخر. شيئاً أعظم من كل الأمجاد العلمية، والفتوحات الحضارية. إنهم يقدمون "تحرير الإنسان" بل "ميلاد الإنسان"… وهم حين يقدمون للبشرية هذه الهدية يقدمون معها منهجاً كاملاً للحياة منهجاً يقوم على تكريم الإنسان، وعلى إطلاق يده وعقله وضميره وروحه من كل عبودية إطلاقه بكل طاقاته لينهض بالخلافة وهو حر كريم، يملك إذن أن يقدّم وأن يقوم الأمجاد العلمية، والفتوحات الحضارية، وهو في أوج حريتهن وفي أوج كرامتهن فلا يكون عبداً للآلة، ولا عبداً للبشر .. على السواء. ألهمنا الله السداد. والحمد لله رب العالمين.
|